اثاث من خشب و قلوب من ذهب
بقلم: د. صلاح دعاك
في صباح من تلك الصباحات التي تنسلّ من بين أروقة الحرب كخيط نور خافت، ذهبت إلى محل عريق للأثاث بمدينة بورتسودان، يحمل اسمًا له دلالة ومعنى باللغة الإنجليزية: “نايس”. ولعل الاسم لم يكن وليد صدفة، فقد انطبقت روحه على من فيه، حتى خيّل إليّ أن البساطة والبشاشة استعارتا ملامح صاحب المحل ذاته؛ ذاك الشاب الذي استقبلنا بابتسامة كأنها لا تعرف الذبول، ابتسامة لم تكن طارئة أو مصطنعة، بل كجدول ماء جار لا يكلّ ولا ينقطع.
كنا نتجول بين قطع الأثاث، ننتقي منها ما يناسب مكتبًا بسيطًا نحاول تجهيزه، حين دخل المحل شاب نحيف البنية، قصير القامة، لكن ما إن نطق، حتى هزّ صوته أركان المكان. كان الصوت جهيرًا، صريحًا، يفوق الجسد في حضوره، حتى ظننته صادرًا من شخص آخر يقف خلفه. تلفتّ أبحث عن صاحب هذا الصوت، فإذا به واقف وحده، بقدر من الثقة، وبقايا من كرامة لم تفلح الحرب في سلبها.
قال بوضوح: “السلام عليكم… أنا يا جماعة جيت داير شغل”، ثم أضاف بعد لحظة صمت خفيفة كأنها تنهيدة مستترة: “أنا كنت بركب الأثاث وشغال في محل… لكن الحرب جابتني هنا”.
كلماته دخلت القلب دون استئذان، لكنها لم تحمل ضعفًا، بل كرامة تمشي على قدمين، تبحث عن لقمة بعرق الجبين لا بمنّة ولا سؤال. ظل واقفًا بعزة، ينظر في الوجوه، يبحث عن فرصة تحفظ له ماء وجهه. لم يتأخر صاحب المحل في الرد، بل أشار بهدوء إلى أحد العاملين وقال له: “اتفضل، أمشي لعثمان القاعد هناك، خليه ياخد رقمك، ولو في شغل بناديك”.
ظننتها لحظة مجاملة رقيقة، طريقة مهذبة للاعتذار، كما يفعل كثيرون حين تضيق السبل. لكن ما لم أتوقعه، أن يتبعها بنداء إنساني أعمق، حين ألحّ على الشاب أن يبقى ليتناول معهم وجبة الفطور. كانوا قد أداروا الكراسي حول صحن “البوش المصلح”، لكنه اعتذر بلطف ومضى… كأنما خشي أن يثقل عليهم، أو ربما لم يتعوّد بعد على هذا القدر من الكرم الفطري.
ظلّ المشهد يرافقني طوال اليوم، يحفر في الذاكرة معنى الحرب… لا في أرقام القتلى، ولا في هدير الطائرات، بل في وجوه من يمشون على الأرض وقد نُزعت من أيديهم مفاتيح البيوت وأثاثها، وجُرّدوا من كل شيء حتى ملابسهم، إلا القليل. لكن بفضل الله، لم تُسلب منهم كرامتهم بعد.
وفي اليوم التالي، حضر فريق العمال لتركيب الأثاث الذي اشتريناه من المحل، وكم كانت دهشتي عظيمة حين رأيت ذات الشاب بينهم، بذات النحول، لكن بحضور مضاعف. كان أنشطهم حركة، وأكثرهم دقة، يعمل وكأنما يضع في كل مسمار جزءًا من قلبه، وفي كل قطعة خشب أملًا جديدًا. نظرت إليه بإعجاب لم أُخفه، ثم اتصلت بصاحب المحل لأشكره، لا لأنه فقط منح هذا الرجل عملًا، بل لأنه فعل ما عجزت عنه مؤسسات وسياسات أن تجبر بخاطر مثل هؤلاء وتعطيهم فرصة للحياة الكريمة.
لم يكن تصرفه حالة استثنائية، بل كان مرآةً صافية لمعدن أهل بورتسودان الأصيل، الذين فتحوا بيوتهم ومؤسساتهم للنازحين، واحتضنوا البلاد وأهلها برحابة لم تضق، رغم أن الحرب ضيّقت كل شيء. لقد كانت المدينة، بأحيائها وناسها، أكثر من مجرد ملاذ، كانت وطنًا جديدًا يُعاد تشكيله من تحت الرماد.
تأملت في أثر الفعل البسيط حين يتكرر، وقلت لنفسي: لو أن كل صاحب حرفة أو مهنة فتح بابًا واحدًا لمتضررين من الحرب، لاختلف المشهد. ولو أن الجمعيات والمؤسسات بحثت عن مهارات هؤلاء، وأوجدت لهم فرصًا تحفظ كرامتهم، لخفّت المعاناة، ولساهم كل فرد في صناعة التعافي، لا في انتظاره.
في زمن تاهت فيه النهايات، وغابت فيه ملامح الغد، تظل مثل هذه المواقف شموعًا تُضاء في العتمة، لتقول لنا: لا يزال في الناس خير. لا يزال في هذا الوطن من يتكئ على إنسانيته حين تنهار الجدران.
نسأل الله أن يفرّج عن البلاد والعباد، وأن يحفظ بورتسودان وأهلها من كل شر.
وكل التحية والتقدير لصاحب الابتسامة الصادقة، الأستاذ محمد عبد المنعم، الذي تعرفت عليه بعد ذلك أكثر، فعلمت أن له، بجانب تجارته، باعًا كبيرًا في عمل الخير وإغاثة المنكوبين. عملنا سويًا في منطقة ببورتسودان تكتظ بالنازحين، حيث جمع مبالغ، واشترى بها طعامًا ومواد إيواء، وقام بتوزيعها على الناس. لم أستغرب هذا الفعل منه، فالرجل جُبِل على فعل الخيرات. وبفعلته هذه، لم يبع أثاثًا فقط… بل أعاد لرجل حقه في العمل، وكرامته في الحياة.
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نرفع القبّعة شكرًا وعرفانًا لأهل الشرق الكرام، وعلى رأسهم أهل بورتسودان، لما أظهروه من شهامة ونبل وكرم أصيل في أحلك الأوقات. لقد كانوا صمام أمان ومرفأً للنازحين في محنتهم، ومدوا أياديهم بكل كرم ومحبة.
فلنجعل من قصص الخير هذه منارات نقتدي بها. ولنؤمن بأن التكاتف المجتمعي هو حجر الزاوية في مواجهة المحن، وأن جبر الخواطر ليس فقط خلقًا نبيلًا، بل واجب وطني وأخلاقي. فكل يدٍ تُمدّ للآخرين في وقت الأزمات، هي يد تبني وطنًا أقوى، وتُضيء مستقبلًا أكثر عدلًا ورحمة.