فصل الخطاب
كتب: عثمان البلولة
رجل الدولة عند مفترق المصير
(1)
حين اختُطِف الوطن من قلب الحقيقة إلى هامش التوهان، لم يكن الضوء مرئيًّا، ولم تكن الكلمات كافية. في زمن تتقافز فيه العناوين وتتهاوى فيه القيم، لا يعود الرهان على الصوت الأعلى، بل على الخطوة الأهدأ.
هنا، حيث تدور العاصفة، لا يثبت إلا من كان له جذرٌ في الأرض، ورؤيةٌ في الأفق، وقلبٌ لم يُبع للسماسرة.
(2)
في قلب هذا العتم، لم يكن الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل رجل أمن فحسب. لقد كان “تجسيدًا ماديًا” لصورة الدولة حين تستنفر بقية كرامتها، وتصحو من غيبوبة الفوضى. رجلٌ لا يُشيع نفسه في الإعلام، بل يترك أثره في صمت الملفات، وفي ارتجافة الشاشات خلف الكواليس.
(3)
لم تكن السلطة هي ما حرّكه، بل الواجب. لم يبحث عن تمجيد، بل عن توازن. كانت البلاد، في أصعب لحظاتها، تبحث عمّن “لا يهرب”، عمّن يقف عند الخطوط الأخيرة للدولة، حيث لا مجال للمناورة، ولا مكان للشعارات.
فكان هو.
(4)
تحت عينيه، كان الوطن مشفرًا بخريطة معقدة من الألغام. كل خطوة محسوبة، كل قرار مغلّف بإمكان السقوط أو الانهيار.
لكنه لم يتردد. لم يتكلم كثيرًا، بل “قرأ اللحظة”، وفكّك تعقيداتها بعقل بارد، وقلب مشتعل بوطنٍ لا يُعطى في المزاد.
(5)
ليست مهمته أن يُقنع الناس، بل أن يحميهم. ليست وظيفته أن يربح المعركة الخطابية، بل أن يتجنب الهزيمة الكبرى.
في زمن الارتباك، كان هو نقطة الثبات.
وفي لحظة التشظي، كان هو مركز التماسك.
وفي غابة الصراعات، كان ظل الدولة.
(إلحاق: صدى الظل)
وحين يُذكَر الرجال، لا يُذكر منهم إلا من كانت له بصمة على جدار التاريخ.
ولأن الفريق أول مفضل لم يُطلق صوته، بقي صداه أقوى من ضجيج المرحلة.
رجلٌ يُخفي قوته في قراره، ويختزن الوطن في نظرته، ويَعبُر بين فخاخ المرحلة دون أن يفقد إيمانه بالبقاء.
لم يكن مجرد مدير، بل كان ترميزًا لروح الدولة حين تكون على شفير الغياب.
كان ضوءًا صغيرًا في نفقٍ بلا ملامح، لكنه ضوء من النوع الذي يُرى في آخر المشهد.
(تدوين في دفتر العاصفة)
ليس جميع من عاشوا اللحظة، عبروا التاريخ.
وليس كل من شغلوا المواقع، حفظتهم الذاكرة.
لكن الذين تشبه أفعالهم صمت الجبال، وصبر الأنهار، وشموخ الرايات، أولئك يكتبهم الوطن بنبضه.
الفريق أول أحمد مفضل، ليس اسمًا في سطر.
هو فصل كامل من فصول الدولة حين كانت تكتب سيرتها بين الخطر والكرامة.
نواصل…